مدونة شخصية ثقافية

مدونتي:
أكتب فيها بكل صراحة ما أريد لأهم أعمالي بعد نشرها في الصحف والمواقع الالكترونية، تتناول المدونة القضايا الاجتماعية والثقافية، وكل ما يهم القارئ .. أتمنى أن أكون عند حسن الظن وأن تنال أعجابكم..
مع خالص تقديري.

د. حسن عياش

الخميس، 30 ديسمبر 2010

الموت وحده يغيّب جسد شيخ المؤرخين عبدالعزيز الدوري


" الموت وحده يغيب شيخ المؤرخين عبد العزيز الدوري "
لا يمكن الحديث بأسطر قليلة، وحتى بصفحات مثلها عن شخصية كالدكتور عبدالعزيز الدوري، فمن يَسأل عن الدوري، فهو أولاً الشخصية العامة أستاذ التاريخ الإسلامي بقسم التاريخ بالجامعة الأردنية، وهو ثانياً الإنسان، ولا يعرفه إلا أقرباءه ومن عايَشه، أو تتتلمذ علي يديه.
اتصلَ بي صديقٌ لي يوم الأحد 21/11 يقول لي إنه قرأ على شريط إحدى القنوات الفضائية ما نصه:" جلالة الملك عبدالله يعزي بوفاة المؤرخ الدوري" ليس أقسى من هكذا خبر! كان مؤلماً، وحزيناً لمن يعرف هذا المؤرخ؛ المعروف عالمياً.
كنت أسمع عن الدكتور عبدالعزيز الدوري منذ سنوات، وبالأخص خلال دراستي في مرحلتَّي البكالوريوس، والماجستير، فعلى يديَّ هذا المؤرخ العظيم تخرج معظم أساتذتي، إضافةً إلى مئات الخريجين من جنسيات مختلفة، فضلا عن الرسائل التي أسهم في مناقشتها بجامعات خارج الأردن، وفي أثناء دراستي في جامعة مؤتة(جنوب الأردن) بداية سنة 2003م، فوجئت أن معظم أساتذتي في هذه المرحلة، كانوا ممن تتلمذ على يديه، وبالمناسبة، فإن مشرفّيَّ في الماجستير والدكتوراة، كانا من طلاب الدوري بل، وأشرف عليهما في رسائلهما العلمية، ولإعجابي بفلسفته ومنهجه، كانت لي رغبة تلح عليَّ بأن ألتقي به.
ذات يوم في سنة 2003 اتصلت بالدكتور الدوري ليلاً، وكنت في مدينة الزرقاء، وكان يوم أربعاء، وبادرته بالتعريف، فحيَّاني، وسألني عن الأهل في فلسطين، وعن بعض الأسماء العالقة في ذهنه ممن تتلمذ على يديه، وكان مبادراً مضيافاً عندما استفسر مني إن كنت أعرف مكان سكنه لأزوره في بيته، فأجبته إنَّ الوقت متأخر، كما أنني جديد في الأردن، ولا أعرف عمان جيداً، فتم تحديد اليوم التالي موعداً للقائه في مكتبه في الجامعة الأردنية الساعة الحادية عشرة، ثم شكرني لاتصالي به، وكان يوم الخميس هو اللقاء الأول مع الدوري، استقبلني في مكتبه، وكان دخان غليونه ينبعثُ منه، فرحب بي، وقال: " ماذا تشرب أولاً شاي ولا قهوة؟"، وهذه الضيافه لاحظتها أساسية لكل من يزوره، ثم تحدّثنا عن فلسطين، وما آلت إليه الأوضاع، وعن طلابه، وسألني عن موضوعي في الماجستير، وكنت أهديته نسخة من الرسالة في نهاية اللقاء، حيث أثنى عليها في زيارة أُخرى، وناقشني ببعض مواضيعها، وبدا لي أنه قرأها حرفياً، ثم أخذت، بعد ذلك أترددُ عليه في مكتبه في الجامعة الأردنية.
إنَّ الحديث عن الدكتور الدوري حديث عن الإنسان الغنيّ بالمشاعر والفكر، فما عرفت فيه إلا عذوبة الروح، والتواضع الكبير، والعلم الغزير، كان يضفي أثناء زيارتي له جواً دافئاً وحميماً، من الود والمحبة والانسجام، فبالرغم من كل مراكزه، ومؤهلاته الفكرية والثقافية، غير أنه بتواضعه ونصحه، وبحواره الثقافي الراقي، يعطي انطباعاً جيداً، وصورة حقيقية لفكره، وفلسفته ورجاحة عقله، وجديته.
أستذكر الدوري حينما قلت له: "إنك تتساهل في المنهجية مع الطلاب الذين تشرف على رسائلهم العلمية بعكس السنوات السابقة، ويبدو أن العمر أخذ مكانه عندك"، ويبدو أن صُدِمَ من سؤالي الذي دل على طيشٍ وخفة، وضاعف من شدة هذه الصدمة، عندما طلبت منه كتابة تقديم لرسالة الماجستير الخاصة بي، وكانت دار نشر تعتزم نشر الرسالة، وطلَبَتْ مني أن يكون للدوري بصمة عليها، لكنه قال لي، وقد اهتدى:" هل تقبل أن أكتبَ مقدمة لرسالة لم أكن مشرفاً عليها، ولكن أحد طلابي هو من أشرف عليك، فاذهب إليه من باب الأدب". وبعدها عرفت أنه لطيفاً في تعامله لكنه صارم في العلم والمنهج.
لم يعمل الدكتور الدوري في جامعة عربية إلا كان محفوفا بالشكر، والفضل، والاحترام، وكانت له فيها سيرة حسنة، وهاهي ثمرات فكره تمتد بين تلاميذه على مساحة الوطن العربي بل والعالم، وبرحيله، فإن الساحة الثقافية خسرت مؤرخاً، وعالماً كبيراً، فقد كان يمثل منهجاً كاملاً قلَّ من يقوم به بعده، فهو بحق من طراز فريد، ومن عمالقة التاريخ الإسلامي.
من يكتب عن الدوري يشعر بالتقصير لأنه ليس شخصاً عادياً، فهو إلى جانب إنسانيته، كان رائداً في الكتابة المنهجية للتاريخ، وكذلك الموضوعية، وكان له السبق في كتابة التاريخ الاقتصادي منذ أكثر من نصف قرن، فمؤلفات الدوري تعدُّ مرجعاً للمؤرخين والباحثين، وقد اهتدى فيها إلى أشياء كثيرة لم يبحثها أحد من قبله. ولعل هذا الذي جعل المستشرق برنارد لويس يقول عن الدوري:"أصبح حجة في موضوعه.. بل هو نفسه قد غدا وثيقة تاريخية".
يعتمد منهج الدوري في تدوين التاريخ على الرجوع إلى المصادر الأصلية ومحاكمتها محاكمة منطقية، واستخلاص الحقائق التاريخية منها، فرؤيته للتاريخ أن كتابته لا يمكن أن تكون خارج سياق تيارات الحاضر وهمومه، وهذا يصدق على التاريخ الإسلامي، وكتابة التاريخ الحديث، فتلميذ التاريخ ابن بيئته في الأساس ينطلق من الماضي إلى الحاضر وبالعكس، ويختار موضوعاته، ويفسر مشاكله بمفاهيم عصره"
وأخيراً رحمك الله يا أبا زيد.. رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جنانه... سيفتقدك الكثيرون، لكنَّ الموتَ وحده هو من يغيّب الأجساد

المصدر
http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2010/11/25/214924.html