رسالة إلى أصحاب القرار
اقطعوا أعناقنا ولا تقطعوا أرزاقنا
نفكر كثيرا في حالنا وحالتنا، نمل ونُحبط، نفرح ونسعد، نتأثر بالشعارات التي يحملها الكثيرون، شعارات الشفافية والعدل والمساواة، والتنافس النزيه، وتكافؤ الفرص، نغنى على ظريف الطول، ونعلق الأعلام على سياراتنا وفوق بيوتنا، ونسمع خطابات صنّاع القرار، وتصريحاتهم، ونفرح لها، ولبرامجهم التي يعلنون فيها أن أولى أولوياتهم هي: الديموقراطية، والعدالة، وخلق فرص العمل للمواطن.زوبعة من التساؤلات تطرح في ذهني … ما الذي نحتاج إليه؟! ولربما نحتاج إلى وقفة نردد فيها قول الإمام الشافعي -رحمه الله-:
نعيب زماننا والعيـب فينـا وما لزماننا عيـب سوانـا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا
فدنيانا التصنع والترائي ونحن به نخادع من يرانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيانـا
نعم زوبعة من التساؤلات تطرح، وتحتاج إلى المكاشفة، والصراحة مع الذات لنحاول أن نفهم أنفسنا، ونعي جيداً ما يدور في خلجاتنا، فنحن أُمة ننظر إلى المسؤولين بالشك، وعدم المصداقية، فنحس أنهم تركوا لنا أوجاعا مزمنة، فصاحب القرار مثلاً لا يستمع لمن هو أدنى منه مرتبة، ولا إلى صرخات الرعية.
هل من الممكن أن نعزو أوضاعنا الصعبة إلى غياب الرقابة؟ وإلى تفشي الفساد دون الالتفات إليه، وهو ينخر مؤسساتنا، وهل من الممكن إن نعبر عن أنفسنا أمام الظلم والفجور؟ ونحن أبناء يعرب أعرب الناس لساناً، وأنضر الناس عودا. إلى متى يا أبناء عدنان وقحطان؟؟ إلى متى سنصفي الحساب مع الذات؟ وإلى متى ستظل عاطفة الضمير ميتة إزاء معاناتنا في هذا الوطن؟ وأين حق الاختلاف والديمقراطية؟ أين العدالة والشفافية، وأين تكافؤ الفرص الوظيفية،.. وهذه الأخيرة حدث ولا حرج في مؤسساتنا، فكثيراً ما تقرأ في الصحف، وعلى صفحاتها الأولى، وفي مواقع المؤسسات المختلفة عن توفر وظائف شاغرة محددة بشروط واضحة مثل الكفاءة، والتنافس النزيه.
أعود، قليلاً إلى الشعارات الطَّنانة والرَّنانة، شعارات الشفافية، وتكافؤ الفرص، والادعاء بالتنافس الوظيفي الحر النزيه، شعارات مليئة بالحماسة الوطنية، والبناء، والتضحية من أجل الوطن والمواطن، وكم نعرف أشخاصاً شغلوا مناصب بعيدة عن كل الشروط التي وضعت.. لأن البديل هما الوساطة والمحاباة ... ويبقى من يحمل كل المؤهلات المطلوبة- صاحب الكفاءة- ويطابق كل المواصفات المحددة والشروط في قارعة الطريق بلا وظيفة، وبلا تقدير لأنه لا يتقاضى راتباً بسبب عدم التعيين، بل ينظر إليه أنه مفلس، وفي هذا الصدد، أستحضر- مرة ثانية- شعر الشافعي -رحمه الله-
لمَّــــا أَتَيْـــتُ النَّاسَ أطلبُ عِندهُم أخَـــــا ثقةٍ عند ابتلاء الشــــــــدائدِ
تقلــبتُ في دهـــري رخـــــاءً وشدةً وناديتُ في الأحياء هل من مساعدِ؟
فلــــمْ أرَ فيما ســــاءني غير شامتٍ ولمْ أرَ فِيما سرني غيرَ حـــاســـــدِ
شعارات الجميع يرفعها لأنها أضحت موجة عالمية، لكن زيفها يتضح بالتمويه والتضليل، وعدم المصارحة مع المواطن؛ خاصة عندما يحصل على الوظيفة المطلوبة من لا تتوفر فيه مواصفاتها، ولا شروطها. والأمثلة كثيرة، ومتعددة تلك التي تدل على ذلك التناقض بين ما نردده، وبين ما نسلكه على أرض الواقع.
حدثني أحد الزملاء الثقات أنّ زميلاً له يحمل شهادة الدكتوراة، تقدم إلى شغل وظيفة شاغرة أعلنت عنها إحدى الجامعات؛.ونشرت في الصحف المحلية، ومن بين الشروط المطلوبة، أن يكون المتقدم حاصلاً على المؤهل المطلوب في التخصص، ومن جامعة معترف بها، ولديه خبرة في مجال التدريس الجامعي، وأن يكون لديه خبرة بحثية كافية، وأن يكون متفرغاً كاملاً للتدريس، ومنها أن يكون درس في جامعة وفقا لشروط الانتظام والمواظبة في الدراسة.
اعترف أنني تلهفت لمعرفة نتيجة القصة من زميلي، وهو يتلوها، وآذاني كلها صاغية، وقلبي يخفق، فكانت النتيجة أن شخصاً عُين حاصل على شهادة الماجستير، ليُدرس مساقاتٍ ليست من تخصصه، وليس بينها صلة قرابة، وهنا همست لنفسي بمرارة: أليس هذا هو الفساد بذاته، وهل أصبحت المعايير في التعيين تعتمد على الوساطة، والمحاصصة المقيتة، ولماذا نعاني من تلك الفجوة بين النظرية والتطبيق؟
لقد أعادتني هذه القصة إلى سنوات عملي في جامعة محلية، إذ تصدر الجامعة إعلاناً عن حاجتها إلى عضو هيئة تدريس، والعضو أصلاً تم تعيينه قبل فرز الطلبات، نكتة سخيفة بالفعل، فلا أعرف ما الفائدة من هذا الإعلان سوى ذر الرماد في العيون.
أقولها وكلي ثقة لأنني اكتشفتها أثناء عملي بل أقول غيرها أنَّ زملاء الدوائر يخضعون عملهم للمجاملات؛ بحيث لا يقدر أحد من الإدارة أن يحاسب أياً من هؤلاء المتزاملين، لأنهم يعرفون ثغرات بعضهم، والأسوأ من ذلك أن مربي الأجيال في الجامعات يتاجرون في الأراضي والفلل، وبناء القصور بالملايين، بينما أولياء أمور الطلبة، يتلظون من الأوضاع المعيشية، وغلاء الأسعار، فلا يشعر بمعاناتهم إلا من يكابد مثلهم، أولئك الذين يصرفون ما لديهم أول الشهر، ويبحثون عن قوتهم في آخره...ولا أقصد فيما سلف أن أعيب عليهم التجارة أو أطالب بمنعها، لكن العيب بل، والظلم أنهم في الأصل يعملون في تجارة التدريس، فالعبء التدريسي للأستاذ المساعد يصل إلى 21 ساعة، أليس هذا تاجراً أو كأنه يعمل في روضة أطفال، أليس حرمان الطالب من حقه في التعليم الحقيقي، كارثة إنسانية؟!.
وهنا أتساءل: أليس الأجدر بإدارة الجامعات والوزارات، وعلى رأسها وزارة التعليم العالي - أولاً - أن تصحح الأخطاء القاتلة؟؟ في الوقت الذي يستشري فيه الفساد جسد الأمة بدون حسيب أو رقيب ولا محاسبة؟
لقد آن الأوان أن تعمل كل الوزارات وفي مقدمتها وزارة التربية والتعليم العالي، ومؤسسات التعليم على إصلاح التجاوزات، وخلق فرص عمل جديدة للشباب الخريجين العاطلين عن العمل، في الوقت الذي تهدر فيه ملايين الدولارات بلا فائدة، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فلا بدَّ من ضرورة العمل السريع على إصلاح الأنظمة، والأساليب في عمليات التعيين بشكل مهني بحيث تكون بعيدة عن المحسوبية، والوساطة، والمحاباة.
وفي المحصلة لا بد من طرح هذين السؤالين: هل تسمع أحدى الوزارات تأوهات شبابنا ....أو تكترث لصرخة الألم التي تدوي في سماء وطننا. ثم هل سنتغير، ونتطور، ونتعلم؟ كلها أسئلة ليس نحن من يجيب عنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق