مشهد الجرافات لم يغب عن ذاكرتي
استوقفني مثل شعبي أن الدم ثقيل على بعضه، قبل أيام، ورغم الضغط النفسي، والألم في رقبتي؛ فإنني لم أستطع الغياب عن الحضور لحل مشلكة إجتماعية، نودي لاجتماع في بيت أحد رجال الإصلاح الذي يقطن في الحيِّ الشرقي للقرية، والمشكلة تدور أحداثها حول فتح أحد الجيران نافذة في بيته الملاصق لجاره، والذي يحز في النفس أن الجارين أخوان، فالحجارة أُلقيت، والمياه الساخنة رشقت.... تم الاجتماع في البيت المذكور، وأخذنا في النقاش الجاد لحل المشكلة؛ الكذب، والنصب الخداع والنفاق بلا حدود، ولكأنه دين جديد، المهم في الأمر أن النزاع أفضى إلى تدخل الشرطة، وذكرني ذلك؛ المثل الشعبي "الدم ثقيل على بعضه"، حداني هذا المثل بالتفريج بجوانح قلبي المعذب بالألم والخيبة، فرغم سلبية المثل، لكن بالفعل الدم ثقيل على بعضه، ونحن في خضم تناولنا للقضية بادرت عيني بالنظر إلى الجهة المقابلة - جهة الشرق- وهالني ما شاهدته أمراً غريباً، توسيع لمغتصبة (بدوئيل) التي أقيمت سنة 1984، دوريات جيش الاحتلال تعْبُرُ عُبابَ الطبيعة، وست جرافات إسرائيلية تفعل فيها الأفاعيل، تجرف الأرض بشراسة، وتخلع أشجار الزيتون التي رأيت أغصانها المتناثرة تتهاوى بعشوائية، ورأيت الصخور العظيمة تتهاوى إلى الأسفل، تتقلب نظراتي حيناً إلى الحضور، وآخر إلى معاول هدم الذاكرة، والجغرافيا، والخراب في انتظار ما تؤول إليه.
يكسرني حنيني لذاكرة الطفولة، عندما عشت تحت سماء تلك الطبيعة أحلى أيامي، وعندما مشيت على أرضها الطاهرة.. أولى خطواتي... أهمسُ لنفسي: هل ستعود أشجار الزيتون؟ وهل ستحطُّ الطيور المُشردة على الأرضِ؟.. وما بالك بالطُّيُور التي لا تَطيرْ؟ أنظرُ إلى الشرق، وما وراء الشرق... دعوني أهمس أمام الدنيا: آهٍ يا طبيعة قريتي الجميلة، أشجارك، وزهورك، وصخورك التي صقلتها نعال الفلاحين تئن تحت وطأة جرافــــات الاحتلال. أيتها الطبيعة الجميلة لقد طويت الماضي، وأسكنتيه في قلبي، سأعيش على صدى ذكرى الطفولة ...عندما كنت ألتقط صوراً مرة قائما ... ومرة قاعداً... ومرة على جنبي.
هل يكفينا التباكي على وطن ماله نظير، لم ينغصه إلا أعمال التجريف الخطيرة، فالجرافات الإسرائيلية لا تجيد سوى السحق والتدمير، فكم من الفلسطينيين سحقوا تحت جنازير جرافاتهم، حتى نشطاء السلام مثل ريتشل كوري!!. وكأن شيئاً لم يحدث، فلا أحد يقف في وجهها، ولا أحد يحتج، وعند استدعاء الذاكرة للتدليل على ما يحصل، فإننا لا نتنازل في حل الصراع بين الأقرباء، في الوقت الذي ننحني فيه أمام الأعداء.
ذكريات تجول الذاكرة لم تغب عني، ولا تفتأ تمر أمام عيني، فتوقظ مشاعري وتستثير مثلاً شعبياً:" خذ غريمك على هواه، حتى تجيب رجليه على قفاه"، لكن لم أفهم هذا الفكر السلبي، تحفظت على المشكلة لأنني فقدت التوازن، فما حدث لي من خداع، وغدر مَثُل بين عيني، لقد قُلبت رجلاي إلى قفاي..!! فما قيمتي بعد قلب رجلي من أناس حسبتهم أصدقاء رغم تحذيري منهم، فتعاملي بمثالية، وأخلاقية معهم كان عكس ما توقعت، كثيرون الذين حذروني حينما همسوا في أذني: "الحيط المايل ما بينقعد تحته، فلا تؤمن لمثل هؤلاء"، لكن أمَّنت لهم، ولم القِ بالاً لما قيل لي، فكانت النتيجة !!!
أكملنا النقاش في اليوم التالي وسط الأصوات المنادية بعدم التخلي عن الحق، وصوت الجرافات تنخر فى الأرض، أخذ أحدنا يكذب في الحديث عن الأخوة والمحبة وهداة البال، وقال آخر العدو لا يفرق بين شمالي، وبين جنوبي؛ فكلنا في الهمِّ شرق، في ظل هذا الحديث كان هناك من له مصلحه شخصية؛ فسمح لنفسه أن يكذب؛ فمثل هؤلاء كثيرون فهذا زمانهم، ومثل هذا أوانهم. المشهد الاجتماعي الذي أسوقه يحدث دائماً، لكن المهم من هو الأقوى ومن يثني ذراع الآخر، فالأمر أصبح وباء.
يخبرنا التاريخ الغابر أن ملوكاً كانوا يقتلون إن ثبت أن أحدهم كذاب، وقصة هرقل مع (أبو سفيان)، وتحريه الصدق، خوفا من أن يسمع منه قومه كذباً خير دليل، لتعظيمهم لجرمه، وفي ديننا ما يؤكد عار الكذب، و لقد جاء في الحديث الشريف - وإن تضاربت الآراء في ضعفه وصحته- قال أحد الصحابة للرسول (ص) هل يسرق المؤمن؟ قال: نعم. قال: هل يزني المؤمن؟ قال: نعم. قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا"، وعندها تنحرف الرسالة، ويتغير المضمون، فلا نملك إلا الانتظار. والله المستعان.
hasan_ayyash@msn.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق