رحلة شائكة في دهاليز النفاق، كل ما أعرفه أنّني وجدت نفسي في هذا العمر-عمر الشباب- تخيل، وأنت في هذا العمر الشبابي لو أنك بدون عمل، أو أنَّ راتبك توقف شهراً أو شهرين ماذا ستفعل؟ كيف ستعيش؟ زد على ذلك إذا كان لديك أسرة كبيرة، وما بالك إذا كان عليك أن تشتريَ مساحيق النيفيا، والفاونديشن، والآي لاينر، وروج الشفتين، والأويلي؟... وماذا ستقول لابنك؟ وهو يقفز في حضنك تسيل دموعه على خده باكياً.. يترجاك أن تشتريَ له بلايستاشن لأنه رأى أولاد أعمامه، وأترابه اشتروا بلايستاشن..... وهو لم يُقّدِر وجعَ أسنانك، وأنك مسخم ملطم!! لكن كمن يخاطب القمر في انتظار الجواب..
كم هي صعبة أيام الطفولة!! هكذا تشعر حينها ... كم تهرب من والدك عندما يلحقك بالعصا دون شفقة - فهو من الموديل القديم- تصور لو أنك طلبت قرشاً منه؛ حينها سترى النتيجة!
ما أحلى أيام الطفولة! آهٍ أيها الحلم! كم كنت أتمنى لو كانت كل الأيام طفولة.... هكذا تشعر عندما تكبر.. وتصبح ذكريات.. كم هي المرارة التي عشتها لكني أحبذ أن تعود؛ فهيهات هيهات أن تعود...فكم شعرت، وكأن لي أجنحة تحلق في السماء، هل هي لحظة فرح أن تعود إلى أيام الطفولة، أم لحظة حزن، أم لحظة أمل تسرق الخيال فتسبح في الأيام المقبلة، سأتذكر البيادر، عند كل مغيب شمس على الخاصرة الغربية في طريق الوادي المنحدر حتى القرية، إلى الجنوب منها طريق الدرجات وأنا أحدّق النظر في العائدين من أعمالهم في الحصاد، والرعاة، وهم عائدون بنعاجهم، وأبقارهم، وبغالهم.
أيام البيادر لا تُنسى عندما كنت أنام فوق حلة القمح؛ فشهر أو شهران، ونحن في انتظار الجاروشة على أحر من الجمر، كان البيدر يمتلئ بحلات القمح والشعير....وفي الصباح، يكون الندى الذي يغمر القرية في ذروته، فيما تمنح قطرات الندى التي تغطي سيقان الأشجار إحساساً دافئاً. ورائحة الخبز الذي دلته أمي من الطابون، وهي تضع حفناتٍ من الطحين على قطع العجين في الباطية الخشبية، وأشرب من إبريق الفخار بكل حيوية، وأُكْثِرُ السؤال لأبي –رحمة الله عليه- عن أشياء لا يريد مني أن أعرفها، فيجيبني :" اللي بدري بدري، واللي ما بدري بقول كف عدس".
بعد الحصيدة، كانت جارتنا قد اشترت ثلاجة، أيامها مررنا عن جارنا (أبو الوليد) -رحمه الله- وهو يدخن الهيشي، وقداحته كانت تعمل على الكاز، ويتربع في جلسته على المصطبة؛ يومها قال:" راحت أيام زمان.. الله يسترنا". لكن لم يعرف (أبو الوليد) أن الطابون هُدِم، وضاع فخ الغزلان، وراحت المصطبة التي كان يتربع عليها.
أواه يا قلبي... وينك ي(أبو الوليد)؟ ... وينك يا حج ساطي؟ وينك ي(أبو طالب)؟ - رحمهم الله جميعاً- أين كلماتكم عندما أعطيكم إبريق الميَّة تقولولي "عاشت هالأيادي" أو :" الله يِكِبْرَك".
لأترك كل هذه الصدمات لأني في حالة اكتئاب مثل المبُعد عن حبيبته يظل مفعماً بالحب والذكريات، ما يحزنني بذات الوقت أن الصداع لا يتركني ليس بسبب العجز، لكن بسبب الغدر... فأنا حبيس الشوق والآهات....
ومن صمت الحكايات ودوامة الأحزان، دعوني أغرق في الذكريات؛ لأتفيأ في ظل زيتونة رومية في خلة من خلات تعميرتنا أتشرف بالانتماء إليها في عصر ملأ الضبابُ سماءنا، بعد أن كنا نغتبط لشمس المستقرضات،... الشوق والحنين لماضٍ لن يعود ...دموع الغربة الجميلة، وسقى الله أيام زمان....أيام......البيادر.... والتعامير ...والسحايل...
على سيرة السحيلة والنقَّارة لم تستطع السنوات الطويلة أن تنسيني صوت ستي زريفة – رحمها الله - فصوتها لا يغيب عن ذاكرتي، وهي تحلِّس، وتملِّس رأسي، وتهمس: "الله لايوريك شر، ويحفظك من شر الحسد والعين".
طريق النقَّارة، وبير راضي كان لا يستطيع الشخص أن يمشي فيها، إذا رافقه شخصان، أو إذا ركب على الجحش، وعليه خُرُج أو مشتيل، ولما كنت أركب الجحش أخاف كان أبوي يردد:" مش كل من ركب الخيل خيَّال".
فأهم مشاويري في تلك الأيام كانت من البيت إلى النقَّارة، أو من البيت إلى خلة أبو زرقون، ومن النقَّارة إلى البيت، أو من خلة أبو زرقون إلى البيت، وإذا أبعدنا نصل إلى عين الزاوية.. نسبح، ونسقي النعجات..والبقرات......
وسأظل أتذكر مواسم الحصاد، واللعب على بيادر القمح والشعير والعدس والكرسنة والبيقة.. كانت الحجة حسنة-رحمة الله عليها- متميزة في صناعة صوانٍ من قش القمح .... واسألها عن عمتي كيف تعمل صواني كانت ترد عليّ " يا بنيَّ:" مثل ما قال المثل:" يا كحيلة الدار، موش كل النسا نسا، وموش كل الزلام زلام، فيهم صميدة، وفيهم يشبه العتَّان، وموش كل الصواني صواني... فيهن خاسات ادوار"... لما أذهب إلى البيت بعد أن نضع التبن الأحمر في المداود للدواب.. كنت أميِّل عند عمتي خاتمة- رحمها الله- وكانت تعبانة عليها شرشف مزركش، دخيلك يا عمتي خرفيني عن أيام زمان.. تحكيلي يا عمتي:" أحكيلك عن همي ولمي، ولمَّا أمي جابتني في الصنية، وقالت ويش ياعربان ويش". كانت عمتي عندها كل شيء إلا السعادة، ولما أعود للبيت بعد السهرة عند عمتي أجد لقمة خبز على الأرض ألتقطها، وأبوسها، وأضعها على جبيني...وأضعها في مكان حتى لا يدوس عليها أحد.
ولا يغيب عن بالي أبداً منظر الحاج مسعود- رحمه الله- يقف على ظهر الأوضة ينادي بأعلى صوته: " يا سامعين الصوت .. صلوا على محمد...الحج عثمان (أبو محمود) ضيَّع دزدانو.. وفيه 25 قرش".
وكان أبو خليل-رحمه الله- شمعتنا نلتم حواليه على دفء الحكايات التي سمعناها، وإحدى الأيام نادى على زوجته، وكانت من جيل ابنه، وطلب منها أن تقص لنا حكاية، ويبدو أنها وجدت نفسها مستغابة من إحدى جاراتها كانت عندها، فأومأت برأسها بسرعة، وقالت" مال هالجمل بمشي وبخبع لورا، عيب الناس برى وعيبوا مابرى" وفهمنا أنها كانت تعني عن جارتها.
وينك يا ستي لما كنا ننتظر بفارغ الصبر حكاياتك ونضحك بقهقهة عالية وتزعلي، وتقولي: "مثل ما قالت: القرقعة لا لي خد الُطّو ولا لي جيب أقدو".
كم تعبو أهالينا.. وعلى قول فيروز- سفيرة لبنان إلى النجوم- ستي يا ستّي...اشتئتلك يا ستي .... لما كنت تتعربشي، وتتسلقي السناسل، وتمشي الطريق الزراعية الوعرة، وعلى جانبيها سنابل القمح المتمايلة... ووقع أقدامك تصطكُّ بالحجارة التي صقلتها نعال الفلاحين...
وينك يا ستي لما كنت تحصدين في المنجل، وبين ذراعيك تحملين غِمر القمح, كنت تذكرينا بفيروز، وهي تشارك بصوتها العصافير عند شقشقة الصباح: لاقونا يا أهل الدار جبنا الورد غمار غمار .
أيها الناس...أمنحوا شجرة الزيتون بعض الحب؛ فشجر الزيتون الباقي يذكرنا بأجدادنا- وهم في قبورهم- حتى تتفجر ينابيع الحب من داخلنا، ولولاهُم لما تعلمنا العطاء، فلا شهوة عندي إلا أن أعود لطفولتي لأرتمي بأحضانهم لأشعر بالدفء والحميمية ..فأنام قرير العين، فهناك المكان الأكثر حناناً، وأمناً، وصدقاً...
أعشق أيام الطفولة لأنها الوفاء، والحب الصادق...؛ لأنها الرقص البريء على أنغام الحكايات... سامحونا يا أجدادنا.. فهـا نحن عجزنا عن العودة إلى أيام الصدق والوفاء والعفوية.
كم هي صعبة أيام الطفولة!! هكذا تشعر حينها ... كم تهرب من والدك عندما يلحقك بالعصا دون شفقة - فهو من الموديل القديم- تصور لو أنك طلبت قرشاً منه؛ حينها سترى النتيجة!
ما أحلى أيام الطفولة! آهٍ أيها الحلم! كم كنت أتمنى لو كانت كل الأيام طفولة.... هكذا تشعر عندما تكبر.. وتصبح ذكريات.. كم هي المرارة التي عشتها لكني أحبذ أن تعود؛ فهيهات هيهات أن تعود...فكم شعرت، وكأن لي أجنحة تحلق في السماء، هل هي لحظة فرح أن تعود إلى أيام الطفولة، أم لحظة حزن، أم لحظة أمل تسرق الخيال فتسبح في الأيام المقبلة، سأتذكر البيادر، عند كل مغيب شمس على الخاصرة الغربية في طريق الوادي المنحدر حتى القرية، إلى الجنوب منها طريق الدرجات وأنا أحدّق النظر في العائدين من أعمالهم في الحصاد، والرعاة، وهم عائدون بنعاجهم، وأبقارهم، وبغالهم.
أيام البيادر لا تُنسى عندما كنت أنام فوق حلة القمح؛ فشهر أو شهران، ونحن في انتظار الجاروشة على أحر من الجمر، كان البيدر يمتلئ بحلات القمح والشعير....وفي الصباح، يكون الندى الذي يغمر القرية في ذروته، فيما تمنح قطرات الندى التي تغطي سيقان الأشجار إحساساً دافئاً. ورائحة الخبز الذي دلته أمي من الطابون، وهي تضع حفناتٍ من الطحين على قطع العجين في الباطية الخشبية، وأشرب من إبريق الفخار بكل حيوية، وأُكْثِرُ السؤال لأبي –رحمة الله عليه- عن أشياء لا يريد مني أن أعرفها، فيجيبني :" اللي بدري بدري، واللي ما بدري بقول كف عدس".
بعد الحصيدة، كانت جارتنا قد اشترت ثلاجة، أيامها مررنا عن جارنا (أبو الوليد) -رحمه الله- وهو يدخن الهيشي، وقداحته كانت تعمل على الكاز، ويتربع في جلسته على المصطبة؛ يومها قال:" راحت أيام زمان.. الله يسترنا". لكن لم يعرف (أبو الوليد) أن الطابون هُدِم، وضاع فخ الغزلان، وراحت المصطبة التي كان يتربع عليها.
أواه يا قلبي... وينك ي(أبو الوليد)؟ ... وينك يا حج ساطي؟ وينك ي(أبو طالب)؟ - رحمهم الله جميعاً- أين كلماتكم عندما أعطيكم إبريق الميَّة تقولولي "عاشت هالأيادي" أو :" الله يِكِبْرَك".
لأترك كل هذه الصدمات لأني في حالة اكتئاب مثل المبُعد عن حبيبته يظل مفعماً بالحب والذكريات، ما يحزنني بذات الوقت أن الصداع لا يتركني ليس بسبب العجز، لكن بسبب الغدر... فأنا حبيس الشوق والآهات....
ومن صمت الحكايات ودوامة الأحزان، دعوني أغرق في الذكريات؛ لأتفيأ في ظل زيتونة رومية في خلة من خلات تعميرتنا أتشرف بالانتماء إليها في عصر ملأ الضبابُ سماءنا، بعد أن كنا نغتبط لشمس المستقرضات،... الشوق والحنين لماضٍ لن يعود ...دموع الغربة الجميلة، وسقى الله أيام زمان....أيام......البيادر.... والتعامير ...والسحايل...
على سيرة السحيلة والنقَّارة لم تستطع السنوات الطويلة أن تنسيني صوت ستي زريفة – رحمها الله - فصوتها لا يغيب عن ذاكرتي، وهي تحلِّس، وتملِّس رأسي، وتهمس: "الله لايوريك شر، ويحفظك من شر الحسد والعين".
طريق النقَّارة، وبير راضي كان لا يستطيع الشخص أن يمشي فيها، إذا رافقه شخصان، أو إذا ركب على الجحش، وعليه خُرُج أو مشتيل، ولما كنت أركب الجحش أخاف كان أبوي يردد:" مش كل من ركب الخيل خيَّال".
فأهم مشاويري في تلك الأيام كانت من البيت إلى النقَّارة، أو من البيت إلى خلة أبو زرقون، ومن النقَّارة إلى البيت، أو من خلة أبو زرقون إلى البيت، وإذا أبعدنا نصل إلى عين الزاوية.. نسبح، ونسقي النعجات..والبقرات......
وسأظل أتذكر مواسم الحصاد، واللعب على بيادر القمح والشعير والعدس والكرسنة والبيقة.. كانت الحجة حسنة-رحمة الله عليها- متميزة في صناعة صوانٍ من قش القمح .... واسألها عن عمتي كيف تعمل صواني كانت ترد عليّ " يا بنيَّ:" مثل ما قال المثل:" يا كحيلة الدار، موش كل النسا نسا، وموش كل الزلام زلام، فيهم صميدة، وفيهم يشبه العتَّان، وموش كل الصواني صواني... فيهن خاسات ادوار"... لما أذهب إلى البيت بعد أن نضع التبن الأحمر في المداود للدواب.. كنت أميِّل عند عمتي خاتمة- رحمها الله- وكانت تعبانة عليها شرشف مزركش، دخيلك يا عمتي خرفيني عن أيام زمان.. تحكيلي يا عمتي:" أحكيلك عن همي ولمي، ولمَّا أمي جابتني في الصنية، وقالت ويش ياعربان ويش". كانت عمتي عندها كل شيء إلا السعادة، ولما أعود للبيت بعد السهرة عند عمتي أجد لقمة خبز على الأرض ألتقطها، وأبوسها، وأضعها على جبيني...وأضعها في مكان حتى لا يدوس عليها أحد.
ولا يغيب عن بالي أبداً منظر الحاج مسعود- رحمه الله- يقف على ظهر الأوضة ينادي بأعلى صوته: " يا سامعين الصوت .. صلوا على محمد...الحج عثمان (أبو محمود) ضيَّع دزدانو.. وفيه 25 قرش".
وكان أبو خليل-رحمه الله- شمعتنا نلتم حواليه على دفء الحكايات التي سمعناها، وإحدى الأيام نادى على زوجته، وكانت من جيل ابنه، وطلب منها أن تقص لنا حكاية، ويبدو أنها وجدت نفسها مستغابة من إحدى جاراتها كانت عندها، فأومأت برأسها بسرعة، وقالت" مال هالجمل بمشي وبخبع لورا، عيب الناس برى وعيبوا مابرى" وفهمنا أنها كانت تعني عن جارتها.
وينك يا ستي لما كنا ننتظر بفارغ الصبر حكاياتك ونضحك بقهقهة عالية وتزعلي، وتقولي: "مثل ما قالت: القرقعة لا لي خد الُطّو ولا لي جيب أقدو".
كم تعبو أهالينا.. وعلى قول فيروز- سفيرة لبنان إلى النجوم- ستي يا ستّي...اشتئتلك يا ستي .... لما كنت تتعربشي، وتتسلقي السناسل، وتمشي الطريق الزراعية الوعرة، وعلى جانبيها سنابل القمح المتمايلة... ووقع أقدامك تصطكُّ بالحجارة التي صقلتها نعال الفلاحين...
وينك يا ستي لما كنت تحصدين في المنجل، وبين ذراعيك تحملين غِمر القمح, كنت تذكرينا بفيروز، وهي تشارك بصوتها العصافير عند شقشقة الصباح: لاقونا يا أهل الدار جبنا الورد غمار غمار .
أيها الناس...أمنحوا شجرة الزيتون بعض الحب؛ فشجر الزيتون الباقي يذكرنا بأجدادنا- وهم في قبورهم- حتى تتفجر ينابيع الحب من داخلنا، ولولاهُم لما تعلمنا العطاء، فلا شهوة عندي إلا أن أعود لطفولتي لأرتمي بأحضانهم لأشعر بالدفء والحميمية ..فأنام قرير العين، فهناك المكان الأكثر حناناً، وأمناً، وصدقاً...
أعشق أيام الطفولة لأنها الوفاء، والحب الصادق...؛ لأنها الرقص البريء على أنغام الحكايات... سامحونا يا أجدادنا.. فهـا نحن عجزنا عن العودة إلى أيام الصدق والوفاء والعفوية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق