الحرية أغلى من الحياة
في كثير من الأحيان يتعرض الإنسان في حياته إلى تجارب عديدة، أو إلى الإصابة بطفيليات وصور قاتمة، وقد تكون هذه الصور من بشر، بعيدين كل البعد عن روح الإنسانية، وعن مبادئ ديننا الحنيف، فإذا أردت أن تنتصر على صديق أو زميل لك، فما عليك إلا أن تكيل سيلاً من الإشاعات والتشويه، خاصة من هؤلاء الذين لا يجدون من يوقفهم عند هذا الحد ممن وجد الهوى، والأنا هو المتحكم عندهم, وهذا نوع من اليأس.
كثيرا ما نتكلم بشعاراتنا في كل مكان، ولكنها بعيدة كل البعد من الناحية العملية، نتغنى بالأخوة، والصداقة، وبالتضحية، والإيثار، ونحن نقدم غيرنا قرابين لأخطائنا وصراعاتنا، كيف سنصل إلى مبتغانا في الوحدة، والدفاع عن حقوقنا المسلوبة، ونحن نقزِّم أنفسنا من خلال تقزيم جهود الآخرين… وفي السابق تعلمنا أن الابن يمثــّل أباه في المناسبات دونما حاجة إلى وكالة رسمية، وهـكـذا الموظف في عـمله يمثل نظام مؤسسته في أداء واجـبه، فلا يقوم ضمن أساليب في التأثير على الآخرين بصياغة واقع اجتماعي الذي يتعمد فيه البعض أن يعرضه علينا، أو ينشره لنا، فالعملية تقوم بشكل أساسي على تلك الصورة الذهنية، التي يتم تعميمها على الناس ليتم الحكم عليه، والتعامل مع هؤلاء على هذا الأساس.
هناك من البشر من هم ذئاب، فلسفتهم التشويه، والتزييف، والخداع، متخذين هذه الفلسفة منهجاً؛ فمثلاً يدسون كلمة صحيحة قيلت على لسان إنسانٍ ما – مستهدَف- ويغلفونها بمئات الكلمات الكاذبة لخداع الآخرين، مستغلينهم بعدم التفاتهم إلى حقيقة الكلام الملفق، فيدخلونهم في وساوس السوء. فهم أصحاب الفبركات.. وللكلمة مرادفات كثيرة..!! وهنا استذكر قول غوبلز وزير الإعلام الألماني أيام هتلر بقوله الشهير: "اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب؛ فلا بدَّ من أن يصدق الناس في النهاية".
قد يتـنافـس الأخوة والزملاء والأصدقاء وقـد يتـزاعـلون، كما كان أباؤنا يتنافسون، ويتزاعلون في حب جمال عبدالناصر، فهذا أمر عادي، ولكـن لا يتنكر فريق لآخر، وإذا حصلت الأخيرة، فـهـذه مسألة بسيطة، وسنعـرف أنّ حُـسنَ ظـنـنا، وطيـبة أخلاقـنا، كانا سـهـواً منا، إن هؤلاء المتسلطين لا يأبون إلا أن يزدادوا طغياناً، وجبروتاً، وكأننا نعيش في عصور الظلمات والجهل، وقد يكون هؤلاء ممن تظنهم أنهم الأكثر احتراما لك، لكن عندما تختلف المصالح، والفكر يتخذون من التشويه، والتضليل سياسة، لتقوية نفوذهم على الآخرين من خلال التضليل والتلفيق، وهذا ديدنهم، ومنهجهم.
وفي أعقاب ذلك تنطلق عشرات القصص المفبركة، والتلفيقات، والإشاعات الممنهجة، فتجد بعض الناس من يتصدى للفبركات، مؤكدين على المصداقية التي يتمتع بها هذا - المفبرَك عليه- بما توفر لديهم من إمكانات محدودة، وينفون نفياً قاطعاً هذه التلفيقات.
لا شك أن هذه في المحصلة هي تفاهات لا أكثر، ولا أقل، لكن يضطر هذا المستهَدف الرد على هذه التفاهات والتلفيقات، رغم أنه يكون قد عاهد نفسه على ألا يكون ثائراً على أحد أياً كان.
علينا أن نعرف من يخادع، ومن يلتزم، ومن يدّعي، وأن نكون على ثقة بأنفسنا.. وألا نفتح لمروجي (الإشاعات والدعايات) المغرضة باباً أو نافذة, يمكن أن يعبر منها الهواء الفاسد الخانق.
ليس من الحكمة أن يكيل حفنة من الناس مثلاً، التهم لآخرين لأسباب مصلحية، وإثارة الفتنة، واعتقد أن الأمر هنا يتعلق بفشل وقف سياسة الوساطة، والمحسوبية، والشهرة، والأسبقية، والعلاقات بين زملاء العمل، أو كما قيل: "حُكْلِي بَحُكلَك، وكاكِيلي بَكآكِيلَك"، فالكتابة هي الوسيلة المثلى للتعبير والحوار، وهي من أهم وسائل أصلاح النفوس، فلا نكون كما خاف أجدادنا من فكرهم أو صراحتهم، مثل: (أبو حيان التوحيدي) الذي أحرق كتبه، وقد جاوز التسعين من عمره، ولا مثل، (أبو عمرو بن العلاء) الذي دفن كتبه، خوفاً على نفسه، ولا مثل (أبو سليمان الداري) الذي جمع كتبه في تنور، وسجرها بالنار، ثم قال: " والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك". ولا مثل سفيان الثوري الذي مزق كتبه، وطيرها في الريح وقال: "ليت يدي قطعت من هاهنا، ولم أكتب حرفا"، ولا مثل (أبو سعيد السيرافي) الذي قال لولده:" تركت لك هذه الكتب تكتب بها خيراً, فإذا رأيتها تخونك، فاجعلها طعمة للنار.
قرأت ما يشبه الحكمة بأن الشعوب الناجحة، والصادقة لا يقاس نجاحها، أو فشلها بقوة الذئاب البشرية، إنما نجاح الأمم يقاس بمدى قدرتها على حماية أبنائها من الفشل، والوقوف إلى جانبهم إذا فشلوا، وانتشالهم من السقوط، وردهم إلى الحياة.
وعلى قول الوساطة، يحضرني ما قرأته في غير كتاب لابن عبدربه، أنّ رجلاً من بني كلاب خطب امرأة، فقالت أمها دعنى حتى أسأل عنك، فانصرف الرجل، فسأل عن أكرم الحى عليها، فدل على شيخ منهم كان يحسن التوسط فى الأمر، فأتاه يسأله أن يحسن عليه الثناء ( له حُسن المكافأة)، ثم إن العجوز غدت عليه، فسألته عن الرجل، فقال أنا أعرف الناس به!!، فقالت: فكيف لسانه؟، قال: مدرة قومه، وخطيبهم!، قالت، فكيف شجاعته؟، قال: منيع الجار حامي الذمار، قالت: فكيف حماسته؟ قال: ثمال قومه، وربيعهم، وأقبل الفتى، فقال الشيخ، ما أحسن، والله ما أقبل! ما انثنى، ولا انحنى!. ودنا الفتى، فسلم، فقال الشيخ: ما أحسن، والله ما سلم! ما فار، ولا ثار! ثم جلس، فقال الشيخ: ما أحسن والله ما جلس ما دنا!، ولا نأى! ثم ذهب الفتى ليتحرك، فضرط، فقال الشيخ: ما أحسن، والله ما ضرط!، ما أطنها!، ولا أغنها!، ولا بربرها!، ولا قرقرها!. ونهض الفتى خجلاً، فقال: ما أحسن، والله ما نهض! ما ارقد ولا اقطوطى! فقالت العجوز: حسبك يا هذا وجه إليه من يرده، فوالله ولو سلح (تغوَّط) في ثيابه لزوجناه".
إنه ليس من الإنصاف أن لا توجه السهام إلى هؤلاء الذئاب الذين ينافقون بشتى الأشكال والألوان، ويلفقون لا لشيء إلا لأنهم يحملون حصانة الزيف، والوساطة فلا يتمكن معها أحد من الإشارة إليها إلا بكل جميل.
وأخيراً - رغم كل شيء- فإن البشرية تعلمت خلال تاريخها الطويل، أنَّ الحرية الشخصية أغلى من الحياة نفسها، وأنه لا يمكن ترك أمر تقدير حدود الحرية إلى هوى إنسان، وتحيزه، أو مجموعة من الناس، وتحكمهم، ولو كان عددهم كثيراً ما يكفي للشعور بالاطمئنان. وإن هذه المشاعر ستزول مع الزمن، كحتمية زوال الاحتلال، ورغم كل ما يحدث، فإننا لن نفقد الأمل، وعلينا أن لا ندعها تؤثر فينا وعلينا، لكن ستبقى ذكريات، وتجارب لا أكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق